فيلم الكيت كات واحد من أعظم كلاسيكيات السينما المصرية وأكثرها جماهيرية. الفيلم مقتبس عن رواية الكاتب الكبير إبراهيم أصلان "مالك الحزين" التي صدرت في طبعتها الأولى عام 1983، وقدم لها المعالجة السينمائية والسيناريو المخرج المخضرم داوود عبد السيد مستعينًا بكوكبة من نجوم هذه الحقبة على رأسهم النجم الكبير محمود عبدالعزيز، وشريف منير، ونجاح الموجي، وأحمد كمال، وعايدة رياض، وأمينة رزق، ليخرج في النهاية ليس واحدًا من أجمل أفلام الواقعية المصرية فحسب، وإنما أيقونة فنية عابرة للأجيال.
يبدأ الفيلم بالشيخ حسني يتوسط جلسة المزاج مجيبًا على سؤال أحد السامرين: كيف فقدت البصر؟ يعتدل الشيخ حسني في جلسته ويترك العود جانبًا قبل أن يبدأ في سرد حكاية آسرة بنبرة حزينة تكتنفها موسيقى لا يقل جمالها عن قدرتها العظيمة على التعبير. يبدأ الشيخ حسني حكايته بالبيت الذي بناه الأب رفقة العم مجاهد، كان ذلك في زمن مضى قبل أن تطرده زوجة الأب من البيت. ينفرد وجه الشيخ حسني بالكادر في لقطة مقربة تحاول النفاذ داخل شخصية البطل.
يؤسس الشيخ حسني للزمان قائلًا: "صحيت من النوم قبل الفجرية.. كنا في بؤونة" ثم يلقي بتفصيلة سحرية قبل أن يؤسس للمكان قائلًا: "تقولش الشيطان صحاني.. لقيت نفسي ماشي ناحية البحر" يقصد نهر النيل. ثم يعكف الشيخ حسني على وصف الحالة بدقة شاعر أريب. تدور الكاميرا دورتها مع الجوزة، وتتعقب عيون السامرين الجاحظة والمعلقة بالشيخ حسني كأنهم قد سُحروا بصوته ونبرته المتأنية الحزينة. يقطع الشيخ حسني سرده عند لحظة محسوبة بدقة ليسأل سامعيه: "تفتكروا شوفت إيه؟" ثم يكسر الحالة بمزحة جديدة قبل أن يعود إلى نبرته الحزينة المتأنية ليكمل حكايته وليجهز على ما تبقى من عقل المتحلقين حوله قائلًا: "شفت إنسية،، بنت؟ مش عارف.. يمكن ولية، بتقلع هدومها وبتنزل البحر" ثم يضيف بنبرة معبرة: "قلبي اتخطف" وبعد أن يفجر الدماء في عروق الجالسين يسأله أحدهم بلهفة: "وماعرفتش مين؟" فيجيب ساخرًا: "لا عرفت طبعًا.. أمك".
هكذا يقدم الفيلم في مشهد افتتاحي عظيم واحدة من أجمل الشخصيات في تاريخ السينما المصرية. يبدأ بالشيخ حسني يروي قصته كما يراها أو كما يتخيلها بحرفية وتمكن أجيال متتابعة من رواة القصص والسير على الربابة في المقاهي الشعبية لقرون طويلة مضت، ويأسر السامرين والمشاهدين معًا بحكاية ينهيها بمزحة تبدو عابرة ولكنها معبرة عن صاحبها الذي يسخر من إعاقته بل ومن الحياة برمتها. يلقيها ويترك السامعين ما بين مصدق ومكذب لتلك الحكاية الأسطورية.
الشيخ حسني هو رجل يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلًا. يتحدى إعاقته ويتحايل على الدنيا ليثبت أنه جدير بالحياة وبكل متعها شأنه في ذلك شأن كل إنسان مبصر. يقود الفيسبا داخل الحارة الضيقة في مشهد شهير آخر، ويرشد ضريرًا لا يختلف في إعاقته شيئًا، يأخذه إلى السينما ويحكي له ما يراه بعين خياله وليس ما يرسمه الضوء على الشاشة، يخوض به غمار البحر (النهر) في مركب شراعية لا تبارح الشط ولكنه قادر بخياله فقط أن يوهم صاحبه بأنها تكافح أمواجًا عاتية. يصبح مرشده ودليله ليس في الطريق وحسب، وإنما في الحياة كما يراها أو كما يتمناها.
لا ينكر الشيخ حسني فقدانه البصر، ولكنه يتجاوزه ويرى بعين خياله وبصيرته النافذة، ولهذا لا يكف عن التلاعب بتلك المفارقة في ما يبدو في الظاهر أنه إنكار للحقيقة ولكنه في أعماقه يدركها تمام الإدراك ويتجاوز عن مرارتها برغبته الكبيرة في الحياة. يدخل إلى القهوة ويلقي السلام على من فيها ويخص بالذكر المعلم رمضان، فيسأله الرجل من فوره: هل تراني؟ فيجيبه الشيخ حسني ببديهة سريعة ونكتة لاذعة: بل أشم ريحك، فيعج الحاضرون بالضحك ويسارع المعلم رمضان بترك المكان من فرط الحرج.
لا يفوت الشيخ حسني الفرصة السانحة للتأكيد على بصيرته، فيهرب من ضابط المباحث الذي ضبط جلسة المزاج وروادها في حالة سطل كاملة، ويتركه حائرًا وسط ضحكات الحاضرين. لا يتوانى الشيخ حسني عن تقريع ابنه يوسف عندما يسمع من غرفته ويرى بعين بصيرته كيف أغوته فاطمة ووقف أمامها مسلوب الإرادة، ليخرج من غرفته فجأة مرددًا نكتة جديدة حينما يتلاعب بكلمات أغنية شعبية شهيرة قائلًا: "حرج عليا بابا، وربط رجليا بابا. أو عندما يصادف عشيق روايح زوجة سليمان الصايغ فيطرق بابها متعللًا بالسؤال عن زوجها ليستمتع بوقفتها أمامه كما العارية بعد انكشاف سرها على يد رجل ضرير.
العم مجاهد هو صوت ضمير الشيخ حسني، وهو رمز السلطة الأبوية، ليس في سلطته الرمزية على الشيخ حسني بوصفه صديق الأب الراحل، الذي بنى معه البيت "طوبة طوبة"، ولكن في كونه الصخر التي تتحطم عليها أمواج الشيخ حسني الهادرة بحب الحياة. العم مجاهد هو المرآة التي يرى فيها الشيخ حسني جانبًا آخر من شخصيته وهو أبوته ليوسف.
لا يشعر الشيخ حسني بعجزه إزاء الحياة إلا في حالة واحدة هي علاقته بابنه يوسف، وفي عجزه عن تحقيق أحلام ابنه ورغبته الوحيدة في السفر أو الطيران كما يصفه في المشهد الختامي: "وإنت صغير كنت لما بتمشي بتدب على الأرض، دلوقتي إنت مش عاوز تلمس الأرض، عاوز تطير". في مصارحة غير مقصودة، وفي مشهد العزاء الشهير، يخبر الشيخ حسني الحاضرين بأنه أراد أن يبيع البيت لتدبير تكاليف السفر لابنه. أما الحشيش فهذا أمر مغاير. في مونولوج غاية في الشاعرية والجمال، وبأداء تمثيلي عظيم من الفنان الراحل محمود عبدالعزيز في مشهد موت العم مجاد، يقول الشيخ حسني: "الحشيش ده هو الذنب الوحيد في حياتي" ثم يحكي للعم الميت الذي لا يسمع ولا يرد كيف انتهشته الوحدة بعد وفاة زوجته أم يوسف، وكيف أن لجوءه إلى الجوزة لم يكن إلا رغبة في التآنس والفضفضة حتي يأتي الله بأمره ويسترد وديعته. "أنا بكلم الناس حوالين الجوزة، بفضفض، بضحك، وأغني في قعدة حلوة لغاية ما أموت".
للوحدة أشكال عديدة، ولكن إصعبها على الإطلاق هو الحرمان من وجود شريك عاطفي يأتنس به الإنسان ويسكن إليه ويحادثه بحميمية. تطارد الوحدة كل شخصيات الفيلم، من فاطمة التي تشعر بالوحدة في بيت يعج بسكانه ولا تجد خصوصيتها فيه لتبكي بحرية، وأم روايح التي تشعر بالوحدة بعد أن أنفقت شبابها في تربية البنات، فتخاطب الشيخ حسني بجملة لا تخلو من الشعرية: "ابقى ودنا يا شيخ حسني". حتى روايح التي تخون زوجها بدافع من الوحدة، الزوج الذي ينشغل عنها بحياته وتجارته، ولا يحادثها إلا بكلمات معدودة "يصحى الصبح يقول صباح الخير، ويرجع آخر النهار يقول مساء الخير" حتى عندما يشتهيها فهو لا يعبر عن ذلك أو يطلبه بالكلام، وإنما يجرها إليها جرًا مفهومًا ثم يذهب عنها بعدما يفرغ من حاجته.
الحشيش بالنسبة للشيخ حسني لم يكن سوى سبب ووسيلة لينفرد بالسامرين في جلسة المزاج، يتكلم ويضحك ويسخر من كل شيء ليطرد إحساس الوحدة.
بعد هروب روحية، يلجأ سليمان الصايغ إلى الشيخ حسني ليصحبه إلى حماته ظنًا منه أن زوجته ذهبت إليها غضبى، وهناك يكتشف أنها هربت. يشير الشيخ حسني إلى سليمان الصايغ بالانصراف حتى ينفرد بالأم ويستكشف الحقيقة. وبعد مغادرة سليمان يبدأ الشيخ حسني في مغازلة أم روايح فيذكرها بلعبهم صغارًا في الحقول والغيطان، لتنتشله أم روايح من ذكرياته وتذكره بالواقع قائلة: "الغيطان خلصت، بقيت عماير وبيوت والعيال كبروا والأيام كلت عافيتنا وشبابنا". يتقلص الكادر الواسع إلى لقطة مقربة لوجه الشيخ حسني لنتأمل أثر كلام أم روايح. لحظة خاطفة تتسرب فيها الكآبة إلى ملامح الشيخ حسني ليسارع بطردها بلسانه قائلًا: "بس إحنا لسه ما خلصناش يا عواطف"، بينما يتأمل بحاسة اللمس مفاتن أم روايح.
قبيل النهاية، وفي مشهد هزلي للغاية رغم واقعيته المفرطة، يعري الشيخ حسني الحارة وسكانها ويفتش جميع أسرارهم عبر مكبر الصوت الذي يعلو بيت الحاج إسماعيل فنجري، الذي استقر على سطحه في أعلى نقطة في الحارة "علشان الكيت كات وإمبابة كلها تسمع". يتناوب الشيخ حسني في إفشاء أسرار سكان الحارة وشخصيات الفيلم العديدة، ويحكي بصوت ضخم المكبر العالي كيف خدع الهرم الحكومة، وكيف هربت روحية وتركت سليمان "يا عيني مقهور"، وكيف طردت فتحية زوجها بعدما انكشفت علاقتها بالهرم، وأخيرًا يفضح علاقة ابنه يوسف بفاطمة، وكيف أنه أراد بيع البيت حتى يدبر مصاريف سفر الابن.
كانت خطبة الشيخ حسني الأخيرة بمثابة رثاء للحارة وأهلها، أو بالأحرى رثاء لزمن الأحلام، زمن الغيطان والبراح ولعب العيال، زمن الأمل في الحياة ومتعها الزهيدة، رثاء للبيت الذي بناه الأب والعم مجاهد بعد أن استولى عليه المعلم صبحي الفراخجي بالترغيب والترهيب ليهدمه ويقيم مكانه برجًا سكنيًا.
لم تكن ألاعيب الشيخ حسني واحتياله على عجزه إلا محاولة منه للهروب من الزمان والمكان، والطيران مع نسمة شاردة إلى أيام زمان كما يقول الشاعر الكبير سيد حجاب في أغنية النهاية. في جلسة مصارحة بين الأب وابنه، يفصح الشيخ حسني لابنه عن أكبر مخاوفه قائلًا: "أنا ساعات بقوم من النوم نفسي مقبوض، وحاسس إني هتخنق، ببقى عاوز حاجة واحدة بس، أسوق موتوسيكل وأطير بيه"، ثم لا يلبث أن يطرد عنه الكآبة متلقفًا العود ومتغنيًا بأجمل الكلمات التي جاءت في صورة وصية أب خبر الحياة وصرعها وصرعته لابنه الغر الحالم بالطيران. يلخص الأب فلسفته في الحياة قائلًا: "بص شوف الناس والظروف، يمكن تلقى الديابة لابسة فروة خروف، ويمكن تلقى الغلابة في أول الصفوف". ولا يفتوه أن يختتم أغنيته بنكتة جديدة مقفاة: "درجن درجن يا شيخ حسني يا جن".